جزء الخامس
وكانَ مجيءُ الحُرِّ بن يزيدَ منَ القادسيّةِ، وكَانَ عُبيدُاللّه بن زيادٍ بعثَ الحُصينَ بنَ نمُيرٍ وأًمرَه أن ينزلَ القادسيّة، وتقدّمَ الحُرُّ بينَ يديه في ألفِ فارسٍ يستقبلُ بهم حسيناً، فلم يَزَلِ الحُرًّ مُواقِفاً للحسينِ عليهِ السّلامُ حتّى حضرتْ صلاةُ الظُّهرِ، وأمرَ الحسينُ الحجّاجَ بنَ مسرورٍ أن يُؤَذِّنَ، فلمّا حضرتِ الأقامةُ خرجَ الحسينُ عليهِ السّلامُ في إِزارٍ ورداءٍ ونعلينِ ، فحمدَ اللّهَ وأثنى عليه ثمّ قالَ : «أيًّها النّاسُ ، إِنِّي لم آتِكم حتّى أتَتْني كتبُكم وقدمتْ عليَ رسلُكم : أنِ اقدمْ علينا فإِنّه ليس لنا إِمام ، لعلَّ اللهَّ أن يجمعَنا بكَ على الهدى والحقِّ ؛ فإِن كنتم على ذلكَ فقد جئتُكم فاعطوني ما أطمئنًّ إِليه من عهودِكم ومواثيقِكم ، وِان لم تفعلوا وكنتم لمَقدمي كارهينَ انصرفتُ عنكم إِلى المكانِ الّذي جئتُ منه إِليكم» فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحدٌ منهم بكلمةٍ. فقالَ للمؤذِّنِ : «أقِمْ» فأقامَ الصّلاةَ فقالَ للحُرِّ: «أتُريدُ أن تُصليَ بأصحابكَ ؟» قالَ : لا، بل تُصلِّي أنتَ ونُصلِّي بصلاتِكَ.
فصلّى بهم الحسينَُ بن عليٍّ عليهما السّلامُ ثمّ دخلَ فاجتمعِ إِليه أصحابُه وانصرفَ الحُرُّ إِلى مكانِه الّذي كانَ فيه ، فدخلَ خيمةَ قد ضُرِبَتْ له واجتمعَ إِليه جماعةٌ من أصحابِه ، وعادَ الباقونَ إِلى صفِّهم الّذي كانوا فيه فأعادوه ، ثمّ أخذَ كلُّ رجلٍ منهم بعنانِ دابّتهِ وجلسَ في ظلِّه.
فلمّا كانَ وقتُ العصرِ أمرَ الحسينُ بنُ عليِّ عليهِ السّلامُ أن يتهيّؤوا للرّحيلِ ففعلوا ، ثمّ أمرَ مناديَه فنادى بالعصرِ وَأقامَ ، فاستقامَ الحسينُ عليه السّلام فصلّى بالقومِ ثمّ سلّمَ وانصرفَ إِليهم بوجهه ، فحمدَ اللّهَ وأَثنى عليه ثمّ قالَ : «أمّا بعدُ : أيُّها النّاس فإِنّكم إِن تتّقوا اللّهَ وتعرفوا الحقَّ لأهلهِ يكنْ أرضى للهِ عنكم ، ونحن أهلُ بيتِ محمّدٍ ، وأولى بولايةِ هذا الأمرِعليكم من هؤلاءِ المدَعينَ ما ليسَ لهم ، والسّائرينَ فيكم بالجورِ والعدوانِ ؟ واِن أبيتم إلاٌ كراهيةً لنا والجهلَ بحقِّنا، فكانَ رأْيُكم الان غيرَ ما أتتني به كتبُكم وقَدِمَتْ به عليَّ رسلُكم ، انصرفتُ عنكم». فقالَ له الحُرُّ: أنا واللّهِ ما أدري ما هذه الكتب والرُّسل الّتي تَذْكرُ، فقالَ الحسينُ عليهِ السّلامُ لبعضِ أصحابِه : «يا عُقْبَةَ بنَ سِمْعانَ ، أخرِج الخُرْجَينِ اللَذينِ فيهما كتبُهم إِليَ» فأخرجَ خُرْجَينِ مملوءَينِ صحفاً فنُثرتْ بينَ يديه ، فقالَ له الحُرُ: إِنّا لسنا من هؤلاءِ الّذينَ كتبوا إِليكَ ، وقد أُمِرْنا إِذا نحن لقيناكَ ، ألاّ نفارِقَكَ حتّى نُقْدِمَكَ الكوفةَ على عُبيدِاللّهِ.
فقالَ له الحسينُ عليه السّلامُ : «الموتُ أدنى إِليكَ من ذلكَ» ثمّ قالَ لأصحابه : «قوموا فاركبوا» فركبوا وانتظرَ حتّى رَكِبَ نساؤهم ، فقالَ لأَصَحابه : «انصرفوا» فلمّا ذهبوا لينصرفوا حالَ القومُ بينَهم وبينَ الانصرافِ ،َ فقالَ الحسينُ عليهِ السّلامُ للحُرِّ: «ثكلتْكَ أُمُّك ، ما ترُيدُ؟» فقالَ له الحرًّ: أما لو غيرُك منَ العرب يقولهُا لي وهو على مثلِ الحالِ الّتي أنتَ عليها، ما تركتُ ذكرَأُمِّه بالثُّكَلِ كائناً من كانَ ، ولكنْ واللّهِ ما لي إِلى ذكرِ أُمِّكَ من سبيلٍ إلاّ بأحسنِ ما يقْدَرُ عليه ؟ فقالَ له الحسين عليه السّلامُ : «فما تُريدُ؟» قالَ : أُريدُ أن أنطلقَ بكَ إِلى الأميرعُبيدِاللهِّ بنِ زيادٍ ؛ قالَ : «إِذاً واللهِّ لا أتبعكَ» قالَ : إِذاً واللّهِ لا أدعكَ.
فترادَّا القول ثلاثَ مرّاتٍ.
فلمّا كثر الكلامُ بينهَما قالَ له الحُرُّ: إِنِّي لم اُؤمَرْ بقتالِكَ ، إِنّما أُمِرْتُ ألاّ أُفارِقَكَ حتّى أُقدمَكَ الكوفَة، فإِذ أبيتَ فخذْ طريقاً لا يُدخلُكَ الكوفةَ ولا يَردُّكَ إِلى المدينةِ، تكونَ بيني وبينَكَ نصفاً، حتّى أكتبَ إِلى الأميرِ وتكتَب الى يزيدَ أو إِلى عُبيدِاللّهِ فلعلّ اللهَّ إِلى ذلكَ أن يأْتيَ بأمرٍ يرزقُني فيه العافيةَ من أَن أُبتلى بشئ من امرك ، فخذ هاهنا ، فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وسار الحسين عليه السلام وسار الحر في أصحابه يسايره وهو يقول له : يا حسين اني اذكرك الله في نفسك ، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن ، فقال له الحسين عليه السلام : ( أفبالموت تخوفني ؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه ، وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله فخوفه ابن عمه وقال :أين تذهب ؟ فانك مقتول ؛ فقال :
سأمضي فما بالموت عار على الفتى إذا مــا نوى حـقـا وجــاهد مسلما
وآسى الرجــال الصـــالحين بنـفــسه وفارق مثبورا وباعد مجرما
فإن عشـت لــم انـدم وان مت لم ألم كفى بك ذلا ان تعيش وترغما »
فلما سمع ذلك الحر تنحى عنه ، فكان يسير بأصحابه ناحية ، والحسين عليه السلام في ناحية أخرى ، حتى انتهوا الى عذيب الهجانات ثم مضى الحسين عليه السلام حتى انتهى الى قصر بني مقاتل فنزل به ، فاذا هو بفسطاط مضروب فقال : ( لمن هذا ؟) فقيل : لعبيد الله بن الحر الجعفي ، فقال
ادعوه الي) فلما أتاه الرسول قال له : هذا الحسين بن علي يدعوك ، فقال عبيد الله : انا لله وانا اليه راجعون ، والله ماخرجت من الكوفة الا كراهية أن يدخلها الحسين وانا بها ، والله ما اريد ان اراه ولا يراني ؛ فأتاه الرسول فأخبره فقام الحسين عليه السّلامُ فجاءَ حتّى دخلَ عليه فسلّمَ وجلسَ ، ثمّ دعاه إِلى الخروج معَه ، فأعادَ عليه عُبيدُ اللهِّ بن الحرِّ تلكَ المقالةَ واستقاله ممّا دعاه إِليه ، فقالَ له الحسينُ عليهِ السّلامُ : « فإِن لم تنصرْنا فاتّقِ اللّهَ أن تكونَ ممّن يُقاتلُنا؛ واللّهِ لا يسمعُ واعيتَناأحدٌ ثمّ لا ينصرُنا إلاّ هلكَ » فقالَ : أمّا هذا فلا يكونُ أبداً إِن شاءَ اللّهُ ؛ ثمّ قامَ الحسينُ عليهِ السّلامُ من عندِه حتّى دخلَ رحله.
ولمّا كانَ في اخرِ ألليلِ أمرَ فتيانَه بالاستقاءِ منَ الماءِ، ثمّ أمرَ بالرّحيلِ ، فارتحلَ من قصرِ بني مُقاتلٍ ، فقالَ عُقبةُ بنُ سمعانَ : سِرْنا معَه ساعةً فخفقَ وهوعلى ظهرِفرسِه خفقةً ثمّ انتبهَ ، وهو يقولُ : «إِنّا للّهِ وإنّا إِليه راجعونَ ، والحمدُ للّهِ ربِّ العالمينَ » ففعلَ ذلكَ مرّتينِ أو ثلاثاً، فأقبلَ إِليه ابنُه علي بنُ الحسينِ عليهما السّلامُ على فرسٍ فقالَ : ممَّ حمدتَ الله واسترجعتَ ؟ فقاَل : «يا بُنَيَّ ، إِنِّي خفقتُ خَفقةً فعَنَّ لي فارسٌ علىَ فرسٍ وهو يقولُ : القومُ يسيرونَ ، والمنايا تسيرُ إِليهمِ ، فعلمتُ أَنّها أَنفسُنا نُعِيَتْ إِلينا» فقالَ له : يا أبَتِ لا أراكَ اللهُّ سوءاً، ألسنا على الحقِّ ؟ قالَ : «بلى، والّذي إِليه مرجعُ العبادِ » قال : فإِنّنا إِذاً لا نبالي أَن نموتَ مُحِقِّينَ ؛ فقالَ له الحسينُ عليهِ السّلامُ : «جزاكَ اللّه من ولدٍ خيرَ ما جزى وَلداً عن والدِه ».